منتدى عشاق التطوير
لتتمكن من الإستمتاع بكافة ما يوفره لك هذا المنتدى من خصائص, يجب عليك أن تسجل الدخول الى حسابك في المنتدى. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى عشاق التطوير
لتتمكن من الإستمتاع بكافة ما يوفره لك هذا المنتدى من خصائص, يجب عليك أن تسجل الدخول الى حسابك في المنتدى. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه.
منتدى عشاق التطوير
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
Amr
Amr
مؤسس المنتدى

ذكر القوس
عدد المساهمات : 3461
السٌّمعَة : 34
تاريخ الميلاد : 30/11/1996
تاريخ التسجيل : 04/02/2011
العمر : 27

الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى Empty الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى

الخميس مارس 20, 2014 3:51 pm
دعوة عالمية بلغت ذروة الكمال:


شاء الله عز وجل أن تكون رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، خاتمة الرسالات السماوية، والتي اختصت عرفاً بمدلول كلمة الإسلام كما أن كلمة ((اليهودية)) أو ((الموسوية)) تخص شريعة موسى، عليه السلام، وما اشتق منها، وكلمة ((النصرانية)) أو ((المسيحية)) تخص شريعة عيسى عليه السلام وما تفرع عنها.


وهذه الرسالة التي أنزلها الله على نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، بلغت ذروة الكمال، وجاءت دعوة إنسانية عالمية، لا تخاطب قوماً بأعيانهم، ولا جنساً بذاته، رضيها الله تعالى للناس ديناً، فكانت هي ((الدين)) الكامل الذي أتم الله تعالى به علينا نعمته {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}[1].


وبعد أن كان الموكب الكريم من الرسل والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – يرفع راية التوحيد، ويهتف كلٌ بقومه: {ياقوم إني لكم نذيرٌ مُّبينٌ}[2]، {ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره}[3]... الخ – جاء خاتم النبيين وجامع كلمة المرسلين فجمع الرايات كلها تحت راية واحدة، وجعل ينادي الناس جميعاً: {يا أيُّها النَّاس اعبدوا ربَّكم الَّذي خلقكم والَّذين من قبلكم لعلَّكم تتَّقون}[4]، {يا أيُّها النَّاس قد جآءكم برهانٌ مِّن رَّبكم}[5]، {هذا بلاغٌ لَّلنَّاس ولينذروا به}[6]، بل هو بلاغ لكل من بلغه خبره وانتهى إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: {وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومَنْ بلغ}[7]، والجنّ والإِنس في هذا الخطاب والبلاغ سواء[8] {يامعشر الجنِّ والإِنس}[9].


وقد فصّل الله تعالى في القرآن الكريم سمات هذه الدعوة العالمية العامة، وعرضها على أعين الناس في كثير من آياته، فقال تعالى: {قل يا أيُّها النَّاس إنِّي رسول الله إليكم جميعاً الَّذي له ملك السَّماوات والأرض لا إله إلاَّ هو يحيي ويميت فئامنوا بالله ورسوله النَّبِّي الأمِّيِّ الَّذي يؤمن بالله وكلماته واتَّبعوه لعلكم تهتدون}[10]، {وما أرسلناك إلاَّ كافَّةً لَّلنَّاس بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون}[11]، {يا أيُّها النَّاس قد جآءكم الرَّسول بالحقِّ مِنْ رَّبكم فئامنوا خيراً لَّكم وإن تكفروا فإنَّ لله ما في السَّماوات والأرض}[12]، {تبارك الَّذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}[13].


وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأُحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيِّبة وطهوراً ومسجداً، فأيّما رجل أدركته الصلاة صلّى حيث كان، ونُصرت بالرُّعب بين يدي مسيرة شهر. وأُعطيت الشفاعة))[14].


وقال عليه الصلاة والسلام: ((فُضِّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرُّعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون))[15].



خاتم النبيين:


ومن ثم كان محمد – صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت رسالته خاتمة الرسالات جميعاً: {مَّا كان محمَّدٌ أبآ أحدٍ مِّن رِّجالكم ولكن رَّسول الله وخاتم النَّبيِّين}[16].


ويصور الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ختم رسالته للرسالات السابقة، وكيف أتم البناء الذي تعاقبت عليه رسل الله الكرام، فيقول:((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية [من زواياه] فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين))[17].



ودعوته ناسخة للرسالات السابقة:


وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أرسل من عند الله تعالى بدين بلغ ذروة الكمال الذي لا كمال بعده، وتوجه الخطاب فيه للعالمين كافة، وختم الله به الرسالات، فإن النتيجة المنطقية اللازمة لهذا الكمال ولتمام النعمة أنه تنقطع صلة الإنسانية عن سائر الرسالات والنبوات السابقة في طاعتها واتباعها – مع الإِيمان بأصولها المنزلة – لا بما آلت إليه بعد التحريف على يد الأتباع.


فكل ما جاء به الأنبياء السابقون وعرضوه على الإِنسانية ودَعَوْها إلى اتباعه، قد نُسخ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما من شك أن الإِيمان بنبوتهم وصدق دعوتهم على وجه الإِجمال لازم لابد منه، إذ ما كانوا إلا دعاة إلى الإسلام، وما التصديق بدعوتهم إلا تصديق بالإسلام ولكن، مع ذلك، فقد انقطعت عنهم صلة الإنسانية في طاعتها واتباعها فعلاً، وإنما ارتبطت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتعليمه وأسوته الحسنة ؛ لأن الذي يقتضيه المبدأ:


أولاً: أن لا تعود الإنسانية بحاجة إلى الناقص بعد أن جاءها الكامل.


وثانياً: أنه قد لعبت يد التحريف والإهمال بسيرة وتعاليم الأنبياء السابقين[18] مما لم يعد من الممكن، لأجله، أن تتبعهم الإنسانية فعلاً.


ومن هنا، فإن القرآن الكريم حيثما يأمر بطاعة الرسول واتباع أحكامه وأوامره، لا يأتي بكلمة ((الرسول)) و ((النبي)) إلا معرّفتين بالألف واللام – لتكونا خاصتين بمحمد صلى الله عليه وسلم[19].


يقول الله تعالى مثلاً: {وأطيعوا الله والرَّسول لعلَّكم ترحمون}[20]، ويقول: {أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم}[21]، ويقول أيضاً: {مَّن يطع الرَّسول فقد أطاع الله}[22].



والقرآن الكريم مهيمن على الكتب السابقة:


وكذلك فإن القرآن الكريم قد جعله الله تعالى مهيمناً على ما سبقه من الكتب السماوية، وهو كلمة الله الأخيرة لهذه البشرية، التي يجب أن يفيء إليها الناس كلهم حتى يكونوا مؤمنين، ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يُرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه، سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، قال الله تعالى: {وأنزلنآ إليك الكتاب بالحقِّ مصدِّقاً لِّما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه}[23].


وكما استعمل الله تعالى كلمتي ((الرسول)) و ((النبي)) معرفتين عند الأمر بطاعتهما، لتكون خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم ودالّة على كماله، كذلك جاء لفظ ((الكتاب)) في هذه الآية للدلالة على القرآن الكريم الدلالة نفسها، فهو الكتاب الكامل الجدير بأن يسمى كتاباً، وأن ينصرف إليه معنى الكتاب الإِلهي الكامل الصادق عند الإِطلاق، لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوي، وتفوّقه على بقية أفراده، بعد أن استعمل، في الآيات السابقة لهذه الآية، لفظ التوراة والإِنجيل للكتابين الذين أنزلهما الله على موسى وعيسى عليهما السلام[24].



معنى هيمنة القرآن على ما سبقه: 


وقد تنوعت عبارات المفسرين، من السلف ومن بعدهم رحمهم الله تعالى، في التعبير عن معنى هذه الهيمنة، فقالوا:


مهيمناً: أي مؤتمناً وشاهداً ورقيباً، وحاكماً وقاضياً، ودالاًّ ومصدقاً، فالقرآن الكريم أمين على كل كتاب قبله، في أصله المنزَّل، وهو بهذا حافظ لهذا الأصل لأنه يبين ما طرأ عليه من انحراف وما وافقه من الكتب المتداولة فهو حق، ويجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، وما خالفه وناقضه فهو باطل، ولا تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، ويكون قد طرأ على الكتاب الذي فيه تلك المخالفة والتناقض: تبديلٌ وتحريف. وما جاء في القرآن الكريم، ولم يكن في الكتب المتداولة في أيديهم، المنسوبة إلى الله تعالى، فيكون ما جاء في القرآن هو الحق.


والقرآن الكريم شاهد على ما في تلك الكتب، يشهد لأصولها المنزلة بالصدق[25]، ويشهد عليها وعلى أصحابها بما وقعوا فيه من نسيان حظ عظيم وإضاعته، وتحريف كثير مما بقي وتأويله، والإعراض عن العمل بها، كما نصت على ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم – وستأتي إشارات لذلك -.


والقرآن الكريم رقيب على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير، حيث يشهد لها بالصحة والثبات، ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها، ويعين أحكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها.


ولا ريب في أن تمييز أحكامها الباقية على المشروعية أبداً عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من أحكام: هو معنى من معاني الهيمنة عليها، فالقرآن حاكم على ما في تلك الكتب وقائم عليها وقاضٍ عليها بالحق[26].


وهذه الأقوال، في معنى الهيمنة، متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله تعالى هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، وهو الكتاب الذي لا يُنسخ ولا يغيَّر. ولهذا جعله الله تعالى شاهداً وأميناً وحاكماً على ما سبقه من الكتب، وتكفل – سبحانه – بحفظه، وإذا كان بهذه المثابة، كانت شهادته على التوراة والإِنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة: حقاً وصدقاً[27].



وجوه هذه الهيمنة: 


يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية – رحمه الله –: فالسلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن، المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، ومعلومٌ: أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبة. ومن أسماء الله تعالى ((المهيمن))، ويسمى الحاكم على الناس، القائم بأمورهم: ((المهيمن)).. وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة، القيام على الشيء والرعاية له، وأنشد:


ألا إنّ  خير  الناس  بعد  نبيهم        مهيمنُه التاليه في العرف والنكر


يريد: القائم على الناس بالرعاية لهم...


وهكذا القرآن، فإنه:


أ – قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر وزاد ذلك بياناً وتفصيلا.


ب – وبيّن الأدلة والبراهين على ذلك.


جـ - وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين.


د – وقرر الشرائع الكلية التي بُعثت بها الرسل.


هــ - وجادل المكذبين بالكتب والرسل، جادلهم بأنواع الحجج والبراهين.


و – وبيّن عقوبات الله لهم، ونَصْرَه لأهل الكتب المتبعين لها.


ز – وبيّن ما حرف منه وبُدّل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة.


فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حُرّف منها، وهو حاكم بإقراره ما أقرّه الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات.


وكذلك معنى ((الشهادة)) و ((الحكم)) يتضمن إثبات ما أثبته الله من صدق ومحكم، وإبطال ما أبطله من كذب ومنسوخ. وليس الإِنجيل مع التوراة ولا الزبور بهذه المثابة، بل هي متبعة لشريعة التوراة إلا يسيراً مما نسخه الله بالإِنجيل[28]، بخلاف القرآن. ثم إنه معجز في نفسه، لا يقدر الخلائق أن يأتوا بمثله، ففيه دعوة الرسول، وهو آية الرسول وبرهانه على صدقه ونبوته وفيه ما جاء به الرسول، وهو نفسه برهان على ما جاء به...


ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر، فضلاً عن أن تحتاج إلى شيء – لا يستقل بنفسه – غيرهِ[29].



ليظهره على الدين كله: 


وقد أخبر الله سبحانه ووعد بإظهار هذا الدين على سائر الأديان فقال: {هو الَّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون}[30]. فالله تعالى يعلي هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان والهداية والعرفان، والعلم والعمران، وكذا السيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإِسلام[31]. ولقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام الوعد بإظهار الدين ونصره والتمكين لأهله[32]، وقد تحقق هذا الوعد الصادق بإذن الله.



دعوة أهل الكتاب للإِيمان بمحمد: 


ولأجل هذا فإن الله تعالى يأمر بالإِيمان بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وطاعته واتباع شريعته، حتى الأمم المؤمنة برسالة نبي من الأنبياء السابقين فإن القرآن يوجه إليها هذا الخطاب أيضاً، يقول الله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبيِّن لكم كثيراً مِّمَّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم مِّن الله نور وكتاب مُّبين * يهدي به الله من اتَّبع رضوانه سبل السَّلام ويخرجهم مِّن الظُّلمات إلى النُّور بإذنه ويهديهم إلى صراط مُّستقيم}[33]. ويقول سبحانه: {الَّذين يتَّبعون الرَّسول النَّبيَّ الأمِّيَّ الَّذي يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والإِنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطَّيِّبات ويحرِّم عليهم الخبآئث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالَّذين ءامنوا به وعزَّروه ونصروه واتبَّعوا النُّور الَّذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيُّها النَّاس إنِّي رسول الله إليكم جميعاً الَّذي له ملك السَّماوات والأرض لا إله إلاَّ هو يحيي ويميت فئَامنوا بالله ورسوله النَّبيِّ الأمِّيِّ الَّذي يؤمن بالله وكلماته واتَّبعوه لعلكم تهتدون}[34].



تهديد ووعيد... 


ثم يأتي التهديد والوعيد الشديد لمن يعرض منهم عن الإيمان بما نزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم {يا أيُّها الَّذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزَّلنا مصدِّقاً لِّما معكم مِّن قبل أن نَّطْمِس وجوهاً فنردَّها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنَّآ أصحاب السَّبت وكان أمر الله مفعولاً}[35].


وتأتي سورة البينة لتقرر ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الانحراف عن دين الله ومنهجه، وتقرر أنهم كانوا يعلّقون تحوّلهم وانفكاكهم عما هم عليه من الانحراف والكفر على بينة واضحة، هي بعثة نبي جديد، تكون سبب هدايتهم وتحويلهم عما هم عليه من ضلال وانحراف. ولكن عندما جاءتهم الهداية ممثلة بالكتاب المنزل: القرآن الكريم، والنبي المرسل، محمد صلى الله عليه وسلم - كفروا بهما، فاستمروا على كفرهم وانحرافهم، واستحقوا أن يدفعهم القرآن الكريم بأنهم {هم خير البريَّة * جزآؤهم عند ربِّهم جنَّات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً رَّضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربَّه}[36].


وجاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين هذا المعنى – وتوجب على كل من يسمع به أن يؤمن به ويتبعه ويترك ما كان من شريعة سابقة انتهى العمل بها بعد مجيء محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة – يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار))[37].


ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواعظ من التوراة، فقال: هذه كنت أصبتها مع رجل من أهل الكتاب. فقال: فاعرضها عليَّ، فعرضتها، فتغيّر وجهه تغيراً شديداً، ثم قال: ((لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم))[38].


ومؤمن أهل الكتاب، الذي يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم له أجره مرتين، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وأدرك النبي – صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله تعالى وحق سيده، فله أجران. ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران))[39].


وعندما ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان بين يدي الساعة، ينزل حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فما عذر أهل الكتاب في عدم إيمانهم به واتباعهم له صلى الله عليه وسلم ؟ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية[40]، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد))[41].



مواقف إيجابية حكاها القرآن الكريم: 


ولكن فريقاً من أهل الكتاب، من الذين فتح الله قلوبهم للحق والإِيمان، وأبصارهم للهدى والنور، فأدركوا حقيقة الدعوة التي انتظروها والنبي الذي كانوا يستفتحون به، هذا الفريق قد آمن فعلاً بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعه، ولِمَ لا يؤمنون ؟ وقد قامت الأدلة كلها على صدق هذا النبي، بعد أن بشرت به كتبهم ورأوا أعلام نبوته – صلى الله عليه وسلم - وقد حكى الله تعالى ذلك وسجله فقال: {إنَّ الَّذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّدا * ويقولون سبحان ربِّنآ إن كان وعد ربِّنا لمفعولاً * ويخرُّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً}[42]، وقال تعالى: {الَّذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنَّا به إنَّه الحقُّ من رَّبِّنآ إنَّا كنَّا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مَّرَّتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السَّيِّئة وممَّا رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللَّغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}[43]. {وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربِّهم إنَّ الله سريع الحساب}[44]... الخ آيات كثيرة في هذا المعنى، وسيأتي بعضها أيضاً في مناسبات أخرى.



وحفظها الواقع التاريخي: 


ويحفظ لنا الواقع التاريخي تصديق ذلك، بإسلام أكثر أهل العقول والأحلام والعلوم ممن لا يحصيهم إلا الله، من أولئك الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب، ((فرقعة الإِسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتى صار الكفار معهم تحت المذلة والصغار، والذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا وإنما بقي منهم أقل القليل، وقد دخل في دين الله من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - خلق كثير[45].


ونحن نجتزئ هنا بأمثلة من أولئك الرؤساء والمقدمين في دين النصرانية واليهودية، نشير إليها إشارات سريعة لتكون عنواناً ودليلاً على ما سواها:


أ – فهذا النجاشي ملك النصارى على إقليم الحبشة، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لما تبين له أنه رسول الله آمن به، ودخل في دينه، وآوى أصحابه ومنعهم من أعدائهم، ولما مات أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالساعة التي توفى فيها، ثم خرج بهم إلى المصلى وصلّى عليه، وقصته مشهورة ومعروفة[46].


ب – وعدي بن حاتم، كان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإِسلام لما تبين أنه الحق، وقد كان عدي رئيساً مطاعاً في قومه يأخذ المرباع من غنائمهم، وقد وفد على النبي – صلى الله عليه وسلم - ودخل في الإِسلام[47].


جـ - وسلمان الفارسي: رضي الله عنه، كان قبل إسلامه من أعلم النصارى بدينهم ؛ لأنه فرَّ من دين المجوسية ولحق بنصارى الشام، وخالط كبار رجال النصرانية عن كثب، وعرف الصالح منهم ورجل السوء، حتى انتهى إلى آخر واحد في عمورية من رجال الدين النصراني، ولما حضر أمر الله أوصى سلمان فقال: يا بني ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلّ زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرّتين[48] بينهما نخل به علامات لا تخفى... فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد، فافعل... وقد كان ذلك، وأدرك سلمان – رضي الله عنه – نبوة محمد عليه السلام وأسلم[49].


د – وكذلك: ابنا الجُلنْدَى: جيفر وعبد، ملِكا عُمان وما حولها من ملوك النصارى – يومئذ – لما دعاهما النبي عليه الصلاة والسلام – إلى الإِسلام، أسلما، وصدّقا النبي صلى الله عليه وسلم[50].


هـ - وكان هرقل، ملك الشام، أحد أكابر علمائهم بالنصرانية، قد عرف أن محمداً – صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقاً، وعزم على الإِسلام، فأبى عليه عبّاد الصليب، فخافهم على نفسه وضنَّ بملكه مع علمه بأنه سينقل عنه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأمته، وقصته معروفة مشهورة[51].


و – كذلك كان ملك دين النصرانية بمصر – المقوقس – عرف أن محمداً – صلى الله عليه وسلم - نبي صادق ولكن منعه من اتباعه، أيضاً، مُلْكُه وأن عبّاد الصليب لا يتركون عبادة الصليب، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((ضنَّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه))[52].


ز – وقصة إسلام عبدالله بن سلام – رضي الله عنه – معروفة مشهورة، وقد كان حبراً من أحبار يهود، وكان سيدهم وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم له[53].


ح – وتذكر كتب السيرة مقالة حيي بن أخطب، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة إلى المدينة، وفيها أنه هو – صلى الله عليه وسلم - النبي المنتظر وأنه يعرفه ويثبته، ولكن الحسد والحقد أمليا عليه موقف العداوة أبداً[54].


ولما أسلم عبدالله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن سعية وأسيد ابن عبيد ومَنْ أسلم من اليهود، فآمنوا وصدّقوا، ورغبوا في الإِسلام، قال مَنْ كفر من اليهود: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله عز وجل في ذلك[55]: {ليسوا سواءً مِّن أهل الكتاب أمَّة قآئمة يتلون آيات الله ءانآء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصَّالحين}[56].



وفي العصر الحديث:


وفي العصور الحديثة، نجد أمثلة كثيرة على ذلك، من أولئك الذين يدخلون في دين الإِسلام ولا يستكبرون عن عبادة الله، وهم من المقدّمين في قومهم النصارى ؛ فيهم علماء دينهم، ورجال الدولة والسياسة، وفيهم العلماء ورجال الفكر الثاقب، وفيهم الكتّاب والأدباء والمصلحون والوعاظ ورجال الاجتماع وغيرهم[57]..



لا يتحقق إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد عليه السلام:


ولا يتحقق أصلاً إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه في دينه الذي أنزله الله، وإلا فماهم بمؤمنين ولا مسلمين، فاليهود الذين آمنوا بموسى عليه السلام وصدقوا بكتابه، أو آمنوا بالرسل قبله كانوا مسلمين لله حتى أنزل الله شريعة عيسى، فوجب عليهم – ليحققوا إيمانهم – أن يؤمنوا به ويتبعوه وينفكوّا عن الشريعة السابقة، وكلاهما عند بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم - وجب عليهم – ليكونوا مسلمين – أن يؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فإن لم يفعلوا فما هم بمؤمنين ولا مسلمين، وذلك أنهم أنكروا نبوة رسول من عند الله تعالى ورفضوا الإِيمان برسالة أنزلها الله تعالى.



الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم شرط للإِيمان بنبوة الأنبياء جميعاً:


فالإِيمان بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم - شرط للإِيمان بنبوة الأنبياء جميعاً عليهم السلام، إذ لا يمكن الإِيمان بنبي من الأنبياء أصلاً مع جحود نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحداً. وهذا يتبين بوجوه:


الوجه الأول: أن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته، وأمروا أممهم بالإِيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذّب الأنبياء قبله فيما أخبروا به، وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإِيمان به. والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعاً، وبيان الملازمة هي الوجوه الكثيرة التي تلي هذا مباشرة، وهي تفيد بمجموعها القطع على أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الكتب الإِلهية على ألسن الأنبياء.


الوجه الثاني: أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة جميع المرسلين قبله، من أولهم إلى آخرهم، فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم، وهذا التكذيب كفر، فوجب الإِيمان بدعوته عليه السلام واتباعه.


الوجه الثالث: أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه – عليه الصلاة والسلام – أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل[58]، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإِيمان به إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها، فآيات نبوته عليه الصلاة والسلام أعظم وأكبر، والعلم بنقلها قطعي، لقرب العهد وكثرة النَّقَلة واختلاف أمصارهم وأعصارهم واستحالة تواطئهم على الكذب، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره، فإذا جاز القدح في ذلك كله، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أشد جوازاً، وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلى الله عليه وسلم وآيات نبوته أشدّ[59].



ولو لم يظهر محمد لبطلت نبوة الأنبياء:


ولو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {جآء بالحقِّ وصدَّق المرسلين}[60] فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيؤه هو نفس صدق خبرهم، فكان مجيؤه تصديقاً لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله، ومثل هذا قول المسيح فيما حكاه الله تعالى في القرآن الكريم عنه: {مُّصَدِّقاً لِّما بين يديَّ من التَّوراة ومبشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد}[61] فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقاً لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقاً له، كما كان ظهوره تصديقاً للتوراة، فعادة الله في رسله: أنّ السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق، فلو لم يظهر محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم - ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله[62].



عهد وميثاق...


ومن حكمة الله سبحانه أنه ما بعث نبياً إلا وقد أخذ عليه وعلى أتباعه العهد أن يؤمنوا بالنبي الذي يأتي بعده ويصدقوه وينصروه {وإذ أخذ الله ميثاق النَّبييِّن لمآ ءاتيتكم مِّن كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جآءكم رسولٌ مُّصدِّقٌ لِّما معكم لتؤمِنُنَّ به ولتنصرنَّه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشَّاهدين * فمن تولَّى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}[63] فقد أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضاً، وأخذ الأنبياء على أممهم وأتباعهم الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بذلك إلى أممهم، ولم يدّع أحد ممن صدّق المرسلين أن نبياً أُرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحججه في عباده، بل كلها – وإن كذب بعض الأمم بعضَ أنبياء الله بجحودها نبوته – مقرّة بأنّ مَنْ ثبتت صحة نبوته – فعليها الدينونة بتصديقه، فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم[64].


فمهما آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول من بعده لابد أن يؤمن به ولينصره، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بُعث بعده ونصرتِه، وها قد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب[65]، وقد أخذ الله الميثاق والعهد على أهل الكتاب أن يؤمنوا به، فوجب الوفاء بذلك الميثاق والعهد، واكتفى – سبحانه – بذكر الأنبياء في الآية لأن العهد على المتبوعين عهد على الأتباع، ولأنه إذا وجب على الأنبياء الإِيمان به ونصره فوجوب ذلك على من اتبعهم أولى وأحرى.


وهذا هو معنى ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس – رضي الله عنهما – حيث قالا: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمِنَنَّ به وليَنْصُرَنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصُرُنّه[66].



بشارات الكتب السابقة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام:


وليس لأهل الكتاب أي عذر في عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بشرت كتبهم بنبوته وأشارت إلى ذلك[67]، نجد هذا حكاية عنهم في القرآن الكريم، ونجد له شاهداً من الواقع التاريخي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتفق هذا كله مع النصوص في كتبهم التي يعتمدون هم عليها، سواء في العهد القديم أو الجديد. وإليك شيئاً من البيان لذلك كله:



حكى الله تعالى ذلك في القرآن الكريم:


أما القرآن الكريم، فقد حكى الله تعالى: أن التوراة والإِنجيل قد احتوى كل منهما على إشارات إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وصفته وصفة أصحابه. فقال الله تعالى: {الَّذين يتَّبعون الرَّسول النَّبَّي الأمِّيَّ الَّذي يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والإِنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطَّيِّبات ويحرِّم عليهم الخبآئث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالَّذين ءامنوا به وعزَّروه ونصروه واتبعوا النُّور الَّذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون}[68]. {وكانوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفروا فلمَّا جآءهم مَّا عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}[69]، {أو لم يكن لَّهم ءاية أن يعلمه علماء بني إسرآئيل}[70].


وهم يعلمون صدقه – عليه الصلاة والسلام – وصدق الكتاب الذي أنزل عليه فترى علماءهم الصادقين يقرون بذلك، وإنهم ليعلمون أنه الحق من ربهم فيصدقونه، وإذا تلا عليهم الآيات تراهم يخرون للأذقان سجداً: {وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرَّسول ترى أعينهم تفيض من الدَّمع ممَّا عرفوا من الحقِّ يقولون ربَّنا ءامنَّا فاكتبنا مع الشَّاهدين}[71]. {إنَّ الَّذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّداً * ويقولون سبحان ربِّنا إن كان وعد ربِّنا لمفعولا ويخرُّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً}[72].


وهذه صفته عليه الصلاة والسلام وصفة أصحابه عندهم، في كتبهم، كما حكاها الله تعالى في القرآن الكريم: {مُّحمَّد رَّسول الله والَّذين معه أشدَّآء على الكفَّار رحمآء بينهم تراهم ركَّعاً سجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم مِّن أثر السُّجود ذلك مثلهم في التَّوراة ومثلهم في الإِنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُّرَّاع ليغيظ بهم الكفَّار وعد الله الَّذين ءامنوا وعملوا الصَّالحات منهم مَّغفرةً وأجراً عظيما}[73].


وحكى الله تعالى بشارة عيسى عليه السلام بمحمد – صلى الله عليه وسلم - فقال: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرآئيل إنِّي رسول الله إليكم مصدِّقاً لِّما بين يديَّ من التَّوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلمَّا جآءهم بالبيِّنات قالوا هذا سحرٌ مَبين}[74].


وتجمعت هذه الشواهد كلها لتعطي أهل الكتاب علماً يقينياً بمعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم: {الَّذين ءتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم الَّذين خسرواْ أنفسهم فهم لا يؤمنون}[75].


ولكن فريقاً منهم يكتمون هذا الحق والعلم اليقيني مع علمهم بأنه حق، وفي هذا ما فيه من البشاعة والجحود، فقال الله تعالى عنهم: {الَّذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإنَّ فريقاً مِّنهم ليكتمون الحقَّ وهم يعلمون}[76].


وبعد شهادة الله تعالى ليس هناك شهادة، فهو سبحانه أصدق القائلين وخير الشاهدين.



ولهذه البشارات شواهد سجلها التاريخ:


ولتقوم الحجة على أهل الكتاب أكثر نستدعي شهوداً منهم – وهم أولئك الذين سجّل التاريخ شهاداتهم واعترافاتهم بأنهم ينتظرون نبياً سوف يبعثه الله، وقد بشرت به كتبهم، فقد سبقت آنفاً الإِشارة إلى عدد من رؤساء النصارى الذين أسلموا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لمّا بلغتهم دعوته ؛ لأنهم عرفوها أولاً وعرفوا نبيها من كتبهم التي بشرت به، فما كانوا يرجمون الغيب، بل يعترفون بحق وجدوه مجسّداً في كتبهم:


فهذا امبراطور الروم يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعوه فيه إلى الإِسلام: "وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإِنجيل، بشَّرنَا بك عيسى بن مريم".


وفي كتاب آخر يقول: "قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه"[77].


وهذه الحجة يقيمها المسلمون على النجاشي من الإِنجيل، فلا يعترض على ذلك ولا يرده، فقد قال له عمرو: ".. وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإِنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاضٍ لا يجور، وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي كاليهود في عيسى بن مريم".


فقال النجاشي: "أشهد بالله إنه للنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وإن العيان ليس بأشفى من الخبر"[78].


وهذا المقوقس عظيم القبط في مصر يقول في كتابه للرسول صلى الله عليه وسلم: وقد علمت أن نبياً قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام[79]. فما الذي أعلمه بذلك ؟ هل كان يرجم الغيب ويتبع الظنون والأوهام ؟.


وهذا (مري) حاجب الحارث بن أبي شمر الغساني يقول لشجاع ابن وهب – رضي الله عنه –: "إني قرأت في الإِنجيل، وأجد صفة هذا النبي بعينه، فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد يخرج بأرض العرب".


وهذه الشهادة صريحة في أنه وجد صفة النبي بعينه في الإِنجيل، وذاك رجل الدين النصراني في عمورية الذي لازمه سلمان بوصية من سلفه الذي هو على دينه، يقول عندما حضرته الوفاة: "ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين فيهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة".


وخالدة بنت الحارث، اليهودية، عمة عبدالله بن سلام – تقول له وتسأله لما هاجر النبي عليه السلام إلى المدينة: يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال: فقلت لها: نعم، ثم أسلمت. فقوله: نبشر به، دليل على أن هناك بشارة، فمن أين جاءت إن لم تكن في كتبهم يعرفها علماؤهم ؟.


وذاك أيضاً أبو ياسر بن أخطب، يقول لقومه، بعد أن سمع من النبي وحادثه: ياقوم أطيعوني، فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه[80].


فهذه شهادتهم القولية، وتلك شهادتهم الواقعية، اتفقتا معاً على تأكيد ما نجد من إشارات إلى بعثته عليه الصلاة والسلام في كتبهم التي بين أيديهم اليوم – رغم كل ما أصابها من تحريف وتزوير ورغم الكتمان لكثير منها.



ملاحظات بين يدي البشارات:


ونحن نجتزئ من هذه البشارات ببعضها – ليكون ذلك عنواناً على غيرها – ونقدم بين يدي هذه البشارات بعض الملاحظات المتعلقة بهذه البشارات وطبيعتها وتفسيرها:


(1) مع إيماننا بأن ما بين أيدي أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكتب ليس هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى وحياً على موسى وعيسى عليهما السلام، ورغم ما وقع فيهما على أيدي الأتباع من كتمان وتحريف – فهم يلبسون الحق بالباطل ويخلطونه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل – ويكتمون الحق ويخفونه ويحرفون الكلم عن مواضعه لفظاً ومعنى، ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليلبسوا على السامعين اللفظ المنزل بغيره[81] – رغم هذا كله، فإن إشارات كثيرة لا تزال بين طيات هذه الكتب، تحمل النبوءات والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكأن الله تعالى أبقاها ليخزيهم ويظهر ما هم عليه من باطل ولتقوم عليهم الحجة من كتبهم التي يقدسونها، ولما كثرت هذه البشارات وما استطاعوا كتمانها كلها أخذوا يحرفون فيها ويؤولون تأويلات باردة ليصرفوها عن معناها الحقيقي الدالّ على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم - وليجعلوا بعضها خاصاً بعيسى عليه السلام !.



(2) هذه البشارات على نوعين:


منها ما يكون إشارات مجملة – غالباً – ولا تنطق باسمه صلى الله عليه وسلم واسم بلده مثلاً، بل تذكر صفته ونعته أمته ومخرجه، وشيئاً من صفات دعوته ورسالته وثمراتها، ويكون في هذا أبلغ دلالة على المطلوب من ذكره باسمه الصريح، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل به التعريف والتمييز، ولا يشاء أحد، يسمى بهذا الاسم، أن يدعي أنه هو إلا فعل، إذ الحوالة إنما وقعت على مجرد الاسم، وإن كان هذا الإِخبار مجملاً غير واضح عند العوام من الناس فإنه يصير عند الخواص جلياً بواسطة القرائن التي تحف به وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقة إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عنه صدق ادعائه بظهور علامات النبوة والمعجزات على يديه.


ومن هذه البشارات ما يكون تفصيلاً تاماً بالاسم الصريح للنبي وبلده... الخ، وهذا يتفق مع ما حكاه الله تعالى، على لسان بعض أنبيائه، في القرآن الكريم من البشارة بمحمد صل
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى